فصل: تفسير الآية رقم (46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات‏}‏ أي لكل ما يليق بيانه من الأكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها، وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ الآية، ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر ‏{‏إِلَيْكُمْ‏}‏ هناك وعدم ذكره هنا‏.‏

‏{‏والله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ ءامَنَّا بالله وبالرسول‏}‏ شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم صنف من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم‏.‏ أخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروى عن الحسن نحوه، وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي‏:‏ قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق‏:‏ أكذلك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم فقال‏:‏ مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال‏:‏ هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقال جبريل عليه السلام‏:‏ إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمى لذلك الفاروق، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم الله تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة‏:‏ بعني أرضك فباعهاأياه وتقابضا فقيل للمغيرة‏:‏ أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي‏:‏ قد اشتريت ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت، وعلى هذا وما قبهل جميع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلاً والقاتل واحد منهم، وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ أي وأطعنا الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي ‏{‏ثُمَّ يتولى‏}‏ أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه ‏{‏فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي من بعدما صدر عنهم من ادعاء الايمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم والطاعة لهما، وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمراً معتداً به واجب المراعاة ‏{‏وَمَا أُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى القائلين ‏{‏مِنَ‏}‏ الخ وهم المنافقون جميعهم لا إلى الفريق المتولى منهم فقط، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الايمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل ‏{‏بالمؤمنين‏}‏ أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه، ونفي الايمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم، وجوز أن تكون للفريق على أن المراد بهم فرق منافقون، وضمير ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ للمؤمنين مطلقاً، والحكم على أولئك الفريق بنفي الايمان لظهور أمارة التكذيب الذي هو التولي منهم، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ على هذا حسبما قرره الطيبي للاستبعاد كأنه قيل كيف يدخلون في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين ويرغبون عن تلك المقالة وهذا بعيد عن العاقل المميز، وعلى الأول حسبما قرره أيضاً للتراخي في الرتبة إيذاناً بارتفاع درجة كفر الفريق المتولى عنهم انحطاط درجة أولئك‏.‏

وفي «الكشف» أن الكلام على تقدير كون الإشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتوفي وحده كالاستدراك وفيه دلاله على توغل المتولين في الكفر وأصل الكفر وشامل للطائفتين، وأما على تقدير اختصاص الإشارة بالمتولين فائدة ‏{‏ثُمَّ‏}‏ استبعاد التولي بعد تلك المقالة، وفائدة الأخبار إظهار أنهم لم يثبتوا على قولهم كأنه قيل‏:‏ يقولون هذا يوجد فيهم ما يضاده فلا يكون في دليل خطابه أن غيرهم مؤمن انتهى، وعليه فضمير ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ للمنافقين الشاملين للفريق المتولي لا للمؤمنين مطلقاً على الوجهين فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي وبين خصومهم، وضمير ‏{‏يُحْكِمُ‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام، وجوز أن يكون الضمير عائداً إلى ما يفهم من الكلام أي المدعو إليه وهو شامل لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لكن المباشر للحكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى على الوجهين لتفخيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى وأن حكمه في الحقيقة حكم الله عز وجل فقد قالوا‏:‏ إنه إذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم إنما هو لأحدهما كما في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخادعون الله والذين ءامَنُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏ أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وإنهما بمنزلة شيء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله إلى الآخر، وضمير ‏{‏دَّعَوَا‏}‏ يعود إلى ما يعود إليه ضمير ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏ أي وإذا دعى المنافقون أو المؤمنون مطلقاً ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام لكون الحق عليهم وعلمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق، والجملة الشرطية شرح للتولي ومبالغة فيه حيث أفادت مفاجأتهم الإعراض عقب الدعوة دون الحكم عليهم مع ما في الجملة الاسمية الواقعة جزاء من الدلالة على الثبوت والاستمرار على ما هو المشهور، والتعبير ‏{‏ببينهم‏}‏ دون عليهم لأن المتعارف قول أحد المتخاصمين للآخر‏:‏ اذهب معي إلى فلان ليحكم بيننا لا عليك وهو الطريق المنصف، وقيل‏:‏ هذا الإعراض إذا اشتبه عليهم الأمر، ولذا قال سبحانه‏:‏ لا عليهم وفي ذلك زيادة في المبالغة في ذمهم وفيه بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق‏}‏ أي لا عليهم كما يؤذن به تقديم الخبر ‏{‏يَأْتُواْ إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏مُذْعِنِينَ‏}‏ منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يحكم لهم، والظاهر تعلق إلى بيأتوا‏.‏

وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة، وتقديم المعمول للاختصاص أو للفاصلة أولهما، وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضاً ذم لهم‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل‏:‏ أسبب أعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام مع ظهور حقيتها أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول‏:‏ هجر الحبيب مثلاً فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضاً أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جداً وهو كثير في المحاورات إلا أن الاستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الاستفهام كأنه قيل‏:‏ ليس شيء ما ذكر سبباً لذلك الإعراض، أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سبباً له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة والسلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضاً، وأما الثالث فلانتفائه رأساً حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلاً لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الانقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق عليهم، فمناط النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين هو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما، وفي الثالث هو الأصل والوصل جميعاً، وإذا خص الارتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله عليه وسلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة والسلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة، و‏{‏أَمْ‏}‏ عليه متصلة وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري‏.‏ والبيضاري حيث جعلا ما تقدم تقسيماً لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخير من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث أنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق لهم على غير، والثاني جعله إضراباً عن الأخيرين منها لتحقيق القسم الأول، وقال‏:‏ وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً أو متوقعاً وفسر الارتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم ثم قال‏:‏ وكلاهما باطلان فتعين الأول‏.‏

أما الأول فظاهر‏.‏ وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة والسلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف‏.‏

وقال العلامة الطيبي الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل‏:‏ دع التقسيم فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل، ونقل عن الإمام ما يدل على أن أم منقطعة قال‏:‏ أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف، ووجه الإضراب أن كلاً مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة، واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعي في هذه المادة خصوصاً، وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الاستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليها في الإقرار بها عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله‏:‏ ألست من القوم الذين تعاهدوا *** على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

وقوله‏:‏ ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح

ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولاً، وتقديم ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة والسلام هو حكم الله تعالى، ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ جار على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ونصب ‏{‏قَوْلَ‏}‏ على أنه خبر كان وأن مع ما في حيزها في تأويل مصدر اسمها، ونص سيبويه في مثل ذلك على جواز العكس فيرفع ‏{‏قَوْلَ‏}‏ على الاسمية وينصب المصدر الحاصل من السبك على الخبرية‏.‏

وقد قرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن أبي إسحق‏:‏ والحسن برفع ‏{‏قَوْلَ‏}‏ على ذلك قال الزمخشري‏:‏ والنصب أقوى لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو المصدر الذي أول به أن يقولوا لأنه لا سبيل عليه لتلنكير بخلاف ‏{‏قَوْلَ المؤمنين‏}‏ فإنه يحتمله كما إذا اختزلت عنه الإضافة، وقيل في وجه أعرفيته أنه لا يوصف كالضمير، ولا يخفى أنه لا دخل له في الأعرفية، ثم أنت تعلم أن المصدر الحاصل من سبك أن والفعل لا يجب كونه مضافاً في كل موضع ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ هذا القرءان أَن يَفْتَرِى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37‏]‏ إنه بمعنى ما كان هذا القرآن افتراء‏.‏

وذكر أن جواز تنكيره مذهب الفارسي وهو متعين في نحو أن يقوم رجل إذ هومؤول قطعاً بقيام رجل وهو نكرة بلا ريب‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم أن النصب أقوى صناعة لكن الرفع أقعد معنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالاً على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذن هو أحق بالخبرية، وأما ما تفيده الإضافة من النسب المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجاً وذهناً كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنواناً للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المئمنين إذا دعوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم وبين خصومهم أن يقولوا سمعنا الخ أي خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولاً آخر أصلاً، وأما النصب فالمعنى عليه إنما كان قولاً للمؤمنين خصوصية قولهم ‏{‏سَمِعْنَا‏}‏ الخ ففيه من جهل أخص النسبتين وأبعدهما وقوعاً وحضوراً في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغاً عنها عنواناً للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى انتهى، وبحث فيه بعضهم بأن مساق الآية يقتضي أن يكون قول المؤمنين سمعنا وأطعنا في مقابلة إعراض المنافقين فحيث ذم ذلك على أتم وجه ناسب أن يمدح هذا، ولا شك أن الأنسب في مدحه الأخبار عنه لا الاخبار به فينبغي أن يجعل ‏{‏أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ اسم كان و‏{‏قَوْلَ المؤمنين‏}‏ خبرها وفي ذلك مدح لقولهم سمعنا وأطعنا إذ معنى كونه قول المؤمنين أنه قول لائق بهم ومن شأنهم على أن الأهم بالإفادة كون ذلك القول الخاص هو قولهم‏:‏ ‏{‏إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي قولهم المقيد بما ذكر ليظهر أتم ظهور مخالفة حال قولهم سمعنا وأطعنا وحال قول المنافقين

‏{‏آمنا بالله وبالرسول وأطعنا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏ فتدبر فإنه لا يخلو عن دغدغة، والظاهر أن المراد منه فيما سبق فكأنهم أرادوا سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم بالذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينكم وبيننا، وقيل المعنى قبلنا قولكم وانقدنا له وأجبنا إلى حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس‏.‏ ومقاتل أن المعنى سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره، وقيل المراد من الطاعة الثبوت أو الإخلاص لتغالير ما مر وهو كما ترى‏.‏

وقرأ الجحدري‏.‏ وخالد بن إلياس ‏{‏لِيَحْكُمَ‏}‏ بالبناء للمفعول مجاوباً لدعوا، وكذلك قرأ أبو جعفر هنا وفيما مر ونائب الفاعل ضمير المصدر أي ليحكم هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ‏.‏‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم، ومافيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي وأولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجليل ‏{‏هُمُ المفلحون‏}‏ أي هم الفائزون بكل مطلوب والناجون عن كل محذور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ استئناف جيء به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الانتظام في سلكهم أي ومن يطع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان فيما أمر به من الأحكام اللازمة والمتعدية، وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ ومن يطع الله ورسوله في الفرائض والسنن وهو يحتمل اللف والنشر وعلى ذلك جرى في البحر ‏{‏وَيَخْشَ الله‏}‏ على ما مضى من ذنوبه ‏{‏وَيَتَّقْهِ‏}‏ فيما يستقبل ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والاتقاء ‏{‏هُمُ الفائزون‏}‏ بالنعيم المقيم لا من عدهم‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وقالون عن نافع‏.‏ ويعقوب ‏{‏وَيَتَّقْهِ‏}‏ بكسر القاف وكسر الهاء من غير إشباع‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏.‏ وحمزة في رواية العجلي‏.‏ وخلاد‏.‏ وأبو بكر في رواية حماد‏.‏ ويحيى بكسر القاف وسكون الهاء‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏.‏ وحمزة في رواية العجلي‏.‏ وخلاد‏.‏ وأبو بكر في رواية حماد‏.‏ ويحيى بكسر القاف وسكون الهاء‏.‏ وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء غير مشبعة والباقون بكسر القاف وكسر الهاء مشبعة بحيث يتولد ياء، ووجه ذلك أبو علي بأن الأصل في الهاء غير مشبعة والباقون بكسر القاف وكسر الهاء مشبعة بحيث يتولد ياء، ووجه ذلك أبو علي بأن الأصل في هاء الضمير إذا كان ما قبلها متحركاً أن تشبع حركتها كما في يؤته ويؤده، ووجه عدم الإشباع أن ما قبل الضمير ساكن تقديراً ولا إشباع بحركته فيما إذا سكن ما قبله كفيه ومنه، ووجه إسكان الهاء إنها هاء السكت وهي تسكن في كلامهم، وقيل‏:‏ هي هاء الضمير لكن أجريت مجرى هاء السكت فسكنت وكثيراً ما يجري الوصل مجرى الوقف، وقد حكى عن سيبويه أنه سمع من يقول‏:‏ هذه أمة الله في الوصل والوقف، ووجه قراءة حفص أنه أعطى ‏{‏يتقه‏}‏ حكم كتف لكونه على وزنه فخفف بسكون وسطه لجعله ككلمة واحدة كما خفف يلدا في قوله‏:‏ وذي ولد لم يلده أبوان *** وعن ابن الأنباري أنه لغة لبعض العرب في كل معتل حذف آخره فيقولون لم أر زيداً يسقطون الحرف للجزم ثم يسكنون ما قبل، وعلى ذلك قوله‏:‏ ومن يتق فإن الله معه *** ورزق الله مؤتاب وغاد

وقوله‏:‏ قالت سليمى اشتر لنا سويقا *** وهات خبز البر أو دقيقاً

والهاء إما للسكت وحركت لالتقاء الساكنين أو ضمير، وكان القياس ضمها حينئذ كما في منه لكن السكون لعروضه لم يعتد به ولئلا ينتقل من كسر لضم تقديراً، وضعف الأول لتحريك هاء السكت وإثباتها في الوصل كذا قيل فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْمَلُونَ وَأَقْسَمُواْ بالله‏}‏ حكاية لبعض آخر من أكاذيب الكفرة المنافقين مؤكداً بالأيمان الفاجرة فهو عود على بدء، والقسم الحلف وأصله من القسامة وهي أيمان تقسم على متهمين بقتل حسبما بين في كتب الفقه ثم صار اسماً لكل حلف، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَهْدَ أيمانهم‏}‏ نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف، وجملة ذلك الفعل مع فاعله في موضع الحال أو هو نصب على الحال أي حلفوا به تعالى يجهدون أيمانهم جهداً أو جاهدين أيمانهم، ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم‏:‏ جهد نفسهإذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها، والمراد أقسموا بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة، وجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لأقسموا أي أقسموا أقسام اجتهاد في اليمين، قال مقاتل‏:‏ من حلف بالله تعالى فقد اجتهد في اليمين‏.‏

والظاهر هنا أنهم غلظوا الأيمان وشددوها ولم يكتفوا بقول الله ‏{‏لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ‏}‏ أي بالخروج كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ‏}‏ والمراد بهذا الخروج الخروج للجهاد كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يدل على أن المراد الخروج من الأموال‏.‏

وأياً ما كان فالجملة جواب لأقسموا وجواب الشرط محذوف لدلالة هذه الجملة عليه وهي حكاية بالمعنى والأصل لنخرجن بصيغة المتكلم مع الغير، وقيل‏:‏ الأصل لخرجنا إلا أنه أريد حكاية الحال الماضية فعبر بذلك‏.‏ وتعقب بأن المعتبر زمان الحكم وهو مستقبل ‏{‏قُلْ‏}‏ أي رداً عليهم وزجراً لهم عن التفوه بتلك الأيمان وإظهاراً لعدم القبول لكونهم كاذبين فيها ‏{‏لاَّ تُقْسِمُواْ‏}‏ على ما ينبىء عنه كلامكم من الطاعة ‏{‏طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي طاعتكم طاعة، والجملة تعليل للنهي كأنه قيل لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة معروفة بأنها واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب لا يجهلها أحد من الناس، وقيل التقدير المطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها كطاعة الخلص من المؤمنين، وقيل‏:‏ ‏{‏طَاعَةٌ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأولى بكم من قسكم‏.‏ واختاره الزجاج، وقيل مرفوع بفعل مقدر أي لتكن طاعة معروفة منكم، وضعف الكل بأنه مما لا يساعده المقام والأخير بأن فيه حذف الفعل في غير موضع الحذف‏.‏

وقال البقاعي‏:‏ لا تقدير في الكلام و‏{‏طَاعَةٌ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ وسوغ الابتداء بالنكرة أنها أريد بها الحقيقة فتعم والعموم من المسوغات، ولم تعرف لئلا يتوهم أن تعريفها للعهد، والجملة تعليل لنهي أي لا تقسموا فإن الطاعة معروفة منكم ومن غيركم لا تخفى فقد جرت سنة الله تعالى على أن العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة لا بد وأن يظهر سبحانه مخايلها على شمائلها، وكذا المعصية فلا فائدة في إظهار ما يخالف الواقع، وفي الأحاديث ما يشهد لما ذكر، فقد روى الطبراني عن جندب ‏{‏مَا أَسَرُّواْ عَبْدُ‏}‏ وروى الحاكم وقال‏:‏ صحيح الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله لإنسان كائناً من كان» وهذاالمعنى على ما قيل حسن لكنه خلاف الظاهر‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏.‏ واليزيدي ‏{‏لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ بالنصب على تقدير تطيعون طاعة معروفة نفاقية، وقيل أطيعوا طاعة معروفة حقيقية وطاعة بمعنى إطاعة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالايمان الفاجرة وما تضمرونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد والمراد الوعيد بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم، وفي الإرشاد أن الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بالمجازاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ كرر الأمر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما حيث أن المقول الأول نهى بطريق الرد والتبكيت، وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع، وفي تكرر فعل الإطاعة والعدول عن أطيعوني إلى أطيعوا الرسول ما لا يخفى من الحث على الطاعة وإطلاقها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما تقدم للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ خطاب للمنافقين الذين أمر عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم ما سمعت وارد من قبله عز وجل غير داخل في حيز ‏{‏قُلْ‏}‏ على ما اختاره صاحب التقريب وغيره وفيه تأكيد للأمر السابق والمبالغة في إيجاب الامتثال به والحمل عليه بالترتيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة بالذات كما هنا، والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه عليه الصلاة والسلام للمأمور به إليهم، وعدم التصريح للإيذان بغاية مسارعته صلى الله عليه وسلم إلى تبليغ ماأمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بها ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ‏}‏ أي على الرسول عليه الصلاة والسلام ‏{‏مَا حُمّلَ‏}‏ أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله ‏{‏أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ ‏{‏وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ‏}‏ أي ما أمرتم به من الطاعة، ولعل التعبير بالتحميل أولاً للإشعار بثقل الوحي في نفسه، وثانياً للإشعار بثقل الأمر عليهم، وقيل‏:‏ لعل التعبير بذلك في جانبهم للإشعار بثقه وكون مؤنه باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل‏:‏ وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل؛ والتعبير به في جانبه عليه الصلاة والسلام للمشاكلة والفاء واقعة في جواب الشرط وما بعدها قائم مقام الجواب أو جواب على حد ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏ كأنه قيل فإن تتولوا فاعلموا أنما عليه الخ‏.‏ هذا واختار بعضهم دخول الجملة الشرطية في حيز القول‏.‏ قال الطيبي‏:‏ الظاهر أنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم‏:‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا يخاف مضرتهم فكان أصل الكلام قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا بمعنى فما يضرونك شيئاً وإنما يضرون أنفسهم على الماضي والغيبة في ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ فصرف الكلام إلى المضارع، والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين بمعنى فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم، وجعل ذلك جارياً مجرى الالتفات وجعله غيره التفاتاً حقيقياً من حيث أنهم جعلوا أولا غيباً حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخطابهم بقل لهم ثم خوطبوا بأن تتولوا استقلالاً من الله تعالى لا من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى أن حمل الآية على الخطاب الاستقلالي الغير الداخل تحت القول أدخل في التبكيت‏.‏

وفي الأحكام أنه استدل بهذه الآية على أن الأمر للوجوب لأنه تعالى أمر بالإطاعة ثم هدد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ الخ والتهديد على المخالفة دليل الوجوب‏.‏ وتعقب بأنه لا نسلم أن ذلك للتهديد بل للاخبار وإن سلمنا أنه للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به وليس مهدداً على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد عليه وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصياً وبه يدفع أكثر ما ذكره القائلون بالوجوب في معرض الاستدلال على دعواهم فتدبر‏.‏

‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ‏}‏ فيما أمركم به عليه الصلاة والسلام من الطاعة ‏{‏تَهْتَدُواْ‏}‏ إلى الحق الذي هو المقصد الأصل الموصول إلى كل خير المنجى عن كل شر، ولعل في تقديم الشق الأول وتأخير هذا إشارة إلى أن الترهيب أولى بهم وأنهم ملابسون لما يقتضيه، وفي الإرشاد تأخير بيان حكم الإطاعة عن بيان حكم التلوي لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من أن غائلة التولي وفائدة الإطلاعة مقصورتان على المخاطبين، وآل أما للجنس المنتظم له صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً أو للعهد أي ما على جنس الرسول كائناً من كان أو ما على روسلنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح في نفسه على أن المبين من أبان المتعدى بمعني بأن اللازم، وقد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام قد فعله بما لا مزيد عليه وإنما بقي ما عليكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ‏}‏ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه ففي الآية تنويع الخطاب حيث خاطب سبحانه المقسمين على تقدير التولي ثم صرفه تعالى عنهم إلى المؤمين الثابتين وهو كالاعتراض بناء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كون ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 65‏]‏ عطفاً على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 45‏]‏ وفائدته أنه لما أفاد الكلام السابق أنه ينبغي أن يأمرهم بالطاعة كفاحاف ولا يخاف مضرتهم أكد بأنه عليه الصلاة والسلام هو الغالب ومن معه فإني للخوف مجال، وإن شئت فاجعله استئنافاً جيء به لتأكيد ما يفيده الكلام من نفي المضرة على أبلغ وجه من غير اعتبار كونه اعتراضاً فإن في العطف المذكور ما ستسمعه إن شاء الله تعالى؛ ومن بيانية، ووسط الجار والمجرور بين جملة ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ والجملة المعطوفة عليها الداخلة معها في حيز الصلة أعني

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه إلى المؤمنين الثابتين وهو كالاعتراض بناء على ما سيأتي ان شاء الله تعالى من كون ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 56‏]‏ عطفاً على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ وفائدته أنه لما أفاد الكلاممن نفي المضرة على أبلغ وجه من غير اعتبار كونه اعتراضاً والجملة المعطوفة الداخلة معها في حيز الصلة أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ مع التأخير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ قيل للدلالة على أن الأصل في ثبوت الاستخلاف الإيمان، ولهذا كان الأصح عدم الانعزال بالفسق الطارىء ودل عليه صحاح الأحاديث ومدخلية الصلاح في ابتداء البيعة وأما في المغفرة والأجر العظيم فكلاهما أثل فكان المناسب التأخير‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن ذلك لتعجيل مسرة المخاطبين حيث أن الآية سيقت لذلك، وقيل‏:‏ الخطاب للمقسمين والكلام تتميم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ ببيان ما لهم في العاجل من الاستخلاف وما يترتب عليه وفي الآجل ما لا يقادر قدره على ما أدمج في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 56‏]‏ والجار للتبعيض وأمر التوسيط على حاله، ولم يرتضه بعض الأجلة لأن ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ إن كان ماضياً على حقيقته لم يستقم إذ لم يكن فيهم من كان آمن حال الخطاب وإن جعل بمعنى المضارع على المألوف من أخبار الله تعالى فمع نبوه عن هذا المقام لم يكن دليلاً على صحة أمر الخلفاء ولم يطابق الواقع أيضاً لأن هؤلاء الأجلاء لم يكن من بعض من آمن من أولئك المخاطبين ولا كان في المقسمين من نال الخلافة انتهى، وفيه شيء‏.‏ ولعله لا يضر بالغرض وارتضى أبو السعود تعلق الكلام بذلك وادعى أنه استئناف مقرر لما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ الخ من الوعد الكريم معرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التي هي من آثار الاهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الاهتداء وأن المراد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أي طائفة كان وفي أي وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم وأن الخطاب ليس للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين المخلصين أو من يعمهم وغيرهم من الأمة ولا للمنافقين خاصة بل هو لعامة الكفرة وأن من للتبعيض، وقال في نكتة التوسيط‏:‏ إنه لإظهار إصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم، وأما التأخير في آية سورة الفتح فلأن من هناك بيانية والضمير للذين معه عليه الصلاة والسلام من خلص المؤمنين ولا ريب في أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليها فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن كون الخطاب لعامة الكفرة خلاف الظاهر، وحمل الفعل الماضي على ما يعم الماضي والمستقبل كذلك وفيما ذكره أيضاً بعد عن سبب النزول، فقد أخرج ابن المنذر‏.‏ والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الدلائل‏.‏ والضياء في المختارة عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى فنزلت‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ‏}‏ الآية ولا يتأتى معه الاستدلال بالآية على صحة أمر الخلفاء أصلاً، ولعله لا يقول به ويستغنى عنه بما هو أوضح دلالة، وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد عامة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأطلقاً الأمة وهي تطلق على أمة الإجابة وعلى أمة الدعوة لكن الأغلب في الاستعمال الاطلاق الأول فلا تغفل، وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارض‏}‏ أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم، والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب، وقيل مأواه عليه الصلاة والسلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح «زويت لي الأرض فاريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم لستخلفنهم، ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق انجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ‏}‏ منزل منزلة المفعول فلا حذف‏.‏

وما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا استخلف‏}‏ مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفنهم استخلافاف كائناً كاستخلافه ‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ وهم بنوا اسرائيل استخلفهم الله عز وجل في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين‏.‏

وقرىء ‏{‏كَمَا استخلف‏}‏ بالبناء للمفعول فيكون التقدير ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافاف أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم ‏{‏وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ‏}‏ عطف على ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ‏}‏ والكلام فيه كالكلام فيه، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور‏.‏

وقيل‏:‏ لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل، والتمكين في الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتاً مقرراً بأن يعلى سبحانه شأنه ويقوى بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجال والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثراً بعد عين‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى ليجعله مقرراً ثابتاف بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يدرون، وأصل التمكين جعل الشيء مكاناف لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى، وفيه بحث، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى ارتضى لَهُمْ‏}‏ وتأخيره عن الوصف من الاخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه ‏{‏وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ‏}‏ بالتشديد، وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو بكر‏.‏ والحسن‏.‏ وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال، وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطم على ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أَوْ‏}‏ ‏{‏وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ‏}‏ بمقتضى البشرية في الدنيا من أعدائهم في الدين ‏{‏مِنَ‏}‏ لا يقادر قدره، وقيل‏:‏ الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول‏.‏

وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل‏.‏

‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من ‏{‏الذين‏}‏ الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ‏}‏ أو في ‏{‏ليبدلنهم‏}‏، وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً‏}‏ حال من الواو في ‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ أو من ‏{‏الذين‏}‏ أو بدل من الحال أو استئناف‏.‏

ونصب ‏{‏شَيْئاً‏}‏ على أنه مفعول به أي شيئاً مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئاً من الإشراك‏.‏ ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً‏}‏ لا يخافون أحداً غيري، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه‏.‏ ولعلهما أراد بذلك تفسير ‏{‏لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً‏}‏ وكأنهما عدا خوف غير الله تعالى نوعاً من الإشراك، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل‏:‏ يعبدونني غير خائفين أحداً غيري، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع ‏{‏يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ‏}‏ الخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة ‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ الخ استئناف لبيان ما يصلون إليه من الأمن كأنه قيل‏:‏ يأمنون إلى حيث لا يخافون أحداً غير الله تعالى ولا يخفي ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في ‏{‏يَعْبُدُونَنِى وَلاَ أَحْسَنَ بَى‏}‏ دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة‏.‏

‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ أي ومن ارتد من المؤمنين ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ أي بعد حصول الموعود به ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ المرتدون البعداء عن الحق ‏{‏هُمُ الفاسقون‏}‏ أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ ولا كجناح بعوضة، وقيل‏:‏ كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكما لهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها، وقيل‏:‏ ذلك إشارة إلى الوعد السابق نفسه، وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق، وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى‏.‏ والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر، وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث أنه لا يبقى بعد حصوله عذر لمن يرتد، وقوة مناسبته للمقام لا تخفى‏.‏ وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال‏:‏ كنت جالساً مع حذيفة‏.‏ وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذيفة‏:‏ ذهب النفاق انما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال‏:‏ بم تقول‏؟‏ قال‏:‏ بهذه الآية ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ إلى آخر الآية وكأن ضحك ابن مسعود كان استغراباً لذلك وسكوته بعد الاستدلال ظاهر في ارتضائه لما فهمه معدن سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآية‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية وجملة ‏{‏مَن كَفَرَ‏}‏ الخ قيل معطوفة على جملة ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ الخ أو على جملة محذوفة كأنه قيل‏:‏ من آمن فهم الفائزون ومن كفر الخ، وقيل‏:‏ إن هذه الجملة وكذا جملة ‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ استئناف بياني أما ذلك في الأول فالسؤال ناشىء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ الخ فكأنه قيل‏:‏ فما ينبغي للمؤمنين بعد هذا الوعد الكريم أو بعد حصوله‏؟‏ فقيل‏:‏ يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏.‏ وأما في الثانية فالسؤال ناشىء من الجواب المذكور فكأنه قيل فإن لم يفعلوا فماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وجزاؤهم معلوم وهو كما ترى‏.‏

هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم لأن الله تعالى وعد فيها من في حضرة الرسالة من المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء ولا بد من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى ولم يقع ذلك المجموع إلا في عهدهم فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف الله تعالى إياه حسبما وعد جل وعلا ولا يلزم عموم الاستخلاف لجميع الحاضرين المخاطبين بل وقوعه فيهم كبنو فلان قتلوا فلاناً فلا ينافي ذلك عموم الخطاب الجميع، وكون من بيانية، وكذا لا ينافيه ما وقع في خلافة عثمان‏.‏ وعلي رضي الله تعالى عنهما من الفتن لأن المراد من الأمن الأمن من أعداء الدين وهم الكفار كما تقدم‏.‏

وأقامها بعض أهل السنة دليلاً على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة، ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه لأنها مسلمة عند الشيعة والأدلة كثيرة عند الطائفتين على من ينكرها من النواصب عليهم من الله تعالى ما يستحقون فقال‏:‏ إن الله تعالى وعد فيها جمعاً من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الاستخلاف وما معه ووعده سبحانه الحق ولم يقع ذلك إلا في عهد الثلاثة، والإمام المهدي لم يكن موجوداً حين النزول قطعاً بالإجماع فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك، والأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان موجداً إذ ذاك لكن لم يرج الدين المرضى كما هو حقه في زماه رضي الله تعالى عنه بزعم الشيعة بل صار أسوأ حالاً بزعمهم مما كان في عهد الكفار كما صرح بذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية ولم يكن الأمن الكامل حاصلاً أصلاً في زمانه رضي الله تعالى عنه فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه وهم كفرة بزعم الشيعة وأغلب عسكر الأمير يخافونهم ويحذرون غاية الحذر منهم، ومع هذا الأمير فرد فلا يمكن إرادته من الذين آمنوا ليكون هو رضي الله تعالى عنه مصداق الآية كما يزعمون فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفراد، وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد فلا احتمالا لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها ولم يحصل لهم التسلط في الأرض ولم يقع رواج دينهم المرتضى لهم وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين متقين منهم كما أجمع عليه الشيعة فلزم أن الخلفاء الثلاثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة وهو المطلوب‏.‏

وزعم الطبرسي أن الخطاب للنبي وأهل بيته صلى الله عليه وسلم فهم الموعودون بالاستخلاف وما معه ويكفي في ذلك تحقق الموعود في زمن المهدي رضي الله تعالى عنه، ولا ينافي ذلك عدم وجوده عند نزول الآية لأن الخطاب الشفاهي لا يخص الموجودين، وكذا لا ينافي عدم حصوله للكل لأن الكلام نظير بنو فلان قتلوا فلاناف، واستدل على ذلك بما روي العياشي بإسناده عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الآية فقال‏:‏ هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً»‏.‏

وزعم أنه روي مثل ذلك عن أبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وهذا على ما فيه مما يأباه السياق والأخبار الصحيحة الواردة في سبب النزول‏.‏ وأخبار الشيعة لا يخفي حالها لا سيما على من وقف على التحفة الأثنى عشرية‏.‏ نعم ورد من طريقنا ما يستأنس به لهم في هذا المقام لكنه لا يعول عليه أيضاً مثل أخبارهم وهو ما أخرجه عبد بن حميد عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام قرأ الآية فقال‏:‏ أهل البيت ههنا وأشار بيده إلى القبلة‏.‏ وزعم بعضهم نحو ما سمعت عن الطبرسي إلا أنه قال‏:‏ هي في حق جميع أهل البيت علي كرم الله تعالى وجهه وسائر الأئمة الأثنى عشر وتحقق ذلك فيهم زمن الرجعة حين يقوم القائم رضي الله تعالى عنه‏.‏ وزعم أنها أحد أدلة الرجعة، وهذا قد زاد في الطنبور نغمة‏.‏ وقال الملا عبد الله المشهدي في كتابه إظهار الحق لابطال الاستدلال بها على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة‏:‏ يحتمل أن يكون الاستخلاف بالمعنى اللغوي وهو الاتيان بواحد خلف آخر أي بعده كما في قوله تعالى في حق بني إسرائيل‏:‏

‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏ فقصارى ما يثبت أنهم خلفاء بالمعنى اللغوي وليس النزاع فيه بل هو في المعنى الاصطلاحي وهو معنى مستحدث بعد رحلة النبي صلى الله عليه وسلم اه‏.‏

وأجيب بأنه لو تم هذا لا يتم لهم الاستدلال على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بالمعنى المصطلح بحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» المعتضد بما حكاه سبحانه عن موسى عليه السلام من قوله لهارون ‏{‏اخلفنى فِى قَوْمِى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ وبما يروونه من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا علي أنت خليفتي من بعدي» وكذا لا يتم لهم الاستدلال على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه بما تضمن لفظ الإمام لأنه لم يستعمل في اكلتاب المجيد بالمعنى المصطلح أصلاً وإنما استعمل بمعنى النبي والمرشد والهادي والمقتدى به في أمر خيراً كان أو شراً أو متى ادعى فهم المعنى المصطلح من ذلك بطريق اللزوم فليدع فهم المعنى المصطلح من الخليفة كذلك وربما يدعي أن فهمه منه أقوى لأنه مقرون حيث وقع في الكتاب العزيز بلفظ في الأرض الدال على التصرف العام الذي هو شأن الخليفة بذلك المعنى على أن مبني الاستدلال على خلافة الثلاثة بهذه الآية ليس مجرد لفظ الاستخلاف حتى يتم غرض المناقش فيه بل ذلك مع ملاحظة إسناد إلى الله تعالى، وإذا أسند الاستخلاف اللغوي إلى الله عز وجل فقد صار استخلافاً شرعياً، وقد يستفتي في هذه المسألة من علماء الشيعة فيقال‏:‏ إن اتيان بني إسرائيل بمكان آل فرعون والعمالقة وجعلهم متصرفين في أرض مصر والشام هل كان حقاً أولاً ولا أظنهم يقولون إلا أنه حق وحينئذ يلزمهم أن يقولوا به في الآية لعدم الفرق وبذلك يتم الغرض هذا حاصل ما قيل في هذا المقام‏.‏

والذي أميل أليه أن الآية ظاهرة في نزاهة الخلفاء الثلاثة رضي الله تعالى عنهم عما رماهم الشيعة به من الظلم والجور والتصرف في الأرض بغير الحق لظهور تمكين الدين والأمن التام من أعدائه في زمانهم ولا يكاد بحسن الامتنان بتصرف باطل عقباه العذاب الشديد‏.‏ وكذا لا يكاد يحسن الامتنان بما تضمنته الآية على أهل عصرهم مع كونهم الرؤساء الذين بيدهم الحل والعقد، لو كانوا وحاشاهم كما يزعم الشيعة فيهم، ومتى ثبت بذلك نزاهتهم عما يقولون اكتفينا به وهذا لا يتوقف إلا على اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح حال نزول الآية وإنكار الشيعة له إنكار للضروريات، وكون المراد بالآية علياً كرم الله تعالى وجهه أو المهدي رضي الله تعالى عنه أو أهل البيت مطلقاً مما لا يقوله منصف‏.‏

وفي كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه ما يقتضي بسوقه خلاف ما عليه الشيعة ففي نهج البلاغة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما استشار الأمير كرم الله تعالى وجهه لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال له‏:‏ إن هذا الأمر لم يكن نصره ولأخذ لأنه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله تعالى الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلح حيث طلح ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذى‏}‏ والله تعالى منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع والعرب اليوم وإن كانوا فليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك وكان قد آن للاعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك فأما ما ذكرت من عددهم فأنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة اه فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ جوز أن يكون عطفاً على ‏{‏أَطِيعُواْ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ داخلاً معه في حيز القول والفاصل ليس بأجنبي من كل وجه فإنه وعد على المأمور به وبعضه من تتمته‏.‏ وفي الكشاف ليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه والفاصل يؤكد المغايرة ويرشحها لأن المجاورة مظنة الاتصال والاتحاد فيكون تكرير الأمر بإطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام للتأكيد، وأكد دوشن الأمر بطاعة الله تعالى لما أن في النفوس لا سيما نفوس العرب من صعوبة الانقياد للبشر ما ليس فيها من صعوبة الانقاد لله تعالى ولتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه وهي الجمل الواقعة في حيز القول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ كما علق الاهتداء بالإطاعة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ والانصاف أن هذا العطف بعيد بل قال بعضهم‏:‏ إنه مما لا يليق بجزالة النظم الكريم‏.‏

وجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ وفيه تخصيص بعد التعميم، وكان الظاهر أن يقال يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الرسول لعلهم يرحمون، لكن عدل عدن ذلك إلى ما ذكر لخطاب لمزيد الاعتناء وحسنه هنا الخطاب في ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وتعقب بأنه مما لا وجه له لأنه بعد تسليم الالتفات وجواز عطف الإنشاء على الأخبار لا يناسب ذلك؛ وكون الجملة السابقة حالاً أو استئنافاً بيانياً، والذي اختاره كونه عطفاً على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإنه سبحانه لما ذكر ‏{‏وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ فهم النهي عن الكفر فكأنه قيل‏:‏ فلا تكفروا وأقيموا الصلاة الخ‏.‏

وجوز أن يكون انفهام المقدر من مجموع ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله‏}‏ الخ، حيث أنه يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح فكأنه قيل فآمنوا واغلوا الصالحات وأقيموا الخ، وجوز في ‏{‏أَطِيعُواْ‏}‏ أن يكون أمراً باطاعته صلى الله عليه وسلم بجميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية وأن يكون أمراً بالإطاعة فيما عدا الأمرين السابقين فيكون ذكره لتكميلهما كأنه قيل‏:‏ وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ‏}‏ الخ متعلق بالأوامر الثلاثة، وجعل على الأول متعلقاً بالأخير

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين، وفي ذلك أيضاً رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبان نظير ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله‏:‏ إياك أعنى فاسمعي يا جارة *** أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح والمحذورية إلى حيث ينهي من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ فقول أبي حيان‏:‏ إن جعل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة والسلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر؛ ومحل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏معاجزين‏}‏ ثانيهما وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الارض‏}‏ ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم وأهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ وابن عامر ‏{‏يَحْسَبَنَّ‏}‏ بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسين حاسب الكافرين معجزين له عز وجل في الأرض أو ضميره صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 56‏]‏ وإليه ذهب أبو علي‏.‏

وزعم أبي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد لما تقدم أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين، ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل‏:‏ لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض، وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفكروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وتعقبه في البحر بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل ‏{‏لا يَحْسَبُهُمُ الذين‏}‏ الخ كما لا يجوز ظنه زيد قائماً، وقال الكوفيون ‏{‏معاجزين‏}‏ المفعول الأول و‏{‏فِى الارض‏}‏ المفعول الثاني، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك، قال الزمخشري‏:‏ وهذا معنى قوي جيد، وتعقب بأنه بمعزل عن المطابقة لمقتضى المقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض‏.‏

ورد بأنه وإن كان مصب الفائدة جعل مفروغاً منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والإنصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر، والظاهر إنما هو تعلق ‏{‏فِى الارض‏}‏ بمعجزين وأياً ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفاً، ومن ذلك يعلم ما في قول النحاس ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يخطىء قراءة حمزة، فمنهم من يقول‏:‏ هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، ومنهم من قال هذا أبو حاتم انتهى من قلة الوقوف ومزيد الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن، ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك الإمام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ النار‏}‏ عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهي عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل الذين كفروا معجزين ومأواهم النار‏.‏

وجوز أن يكون عطفاً على مقدر لأن الأول وعيد الدنيا كأنه قيل فهم مقهورون في الدنيا بالاستئصال ومخزون في الآخرة بعذاب النار؛ وعن صاحب النظم تقديره بل هم مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار‏.‏

قال في «الكشف»‏:‏ وجعله حالاً على معنى لا ينبغي الحسبان لمن مأواه النار كأنه قيل أني للكافر هذا الحسبان وقد أعد له النار، والعدول إلى ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ للمبالغة في التحقق وأن ذلك معلوم لهم لا ريب وجه حسن خال عن كلف الكلفة ألم به بعض الأئمة انتهى، ولا يخفى أن في ظاهره ميلاً إلى بعض تخريجات قراءة ‏{‏يَحْسَبَنَّ‏}‏ بياء الغيبة‏.‏

وتعقب في «البحر» تأويل جملة النهي لتصحيح العطف عليها بقوله‏:‏ الصحيح أنه يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه، والمأوى اسم مكان، وجوز فيه المصدرية والأول أظهر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ المصير‏}‏ جواب لقسممقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وبالله ‏{‏لَبِئْسَ المصير‏}‏ هي أي النار، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم أثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة ما لا غاية وراءه فلله تعالى در شأن التنزيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ الخ رجوع عند الأكثرين إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وفي التحقيق ويحتمل أن يقال‏:‏ إنه مما يطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، وتخصيصه بالذكر لأن دخوله في الطاعة باعتبار أنه من الآداب أبعد من غيره، والخطاب إما للرجال خاصة والنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين تغليباً، واعترض الأول بأن الآية نزلت بسبب النساء، فقد روي أن أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت، وقد ذكر في «الإتقان» أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي‏.‏

وأجيب بأنه ما المانع من أن يعلم الحكم في السبب بطريق الدلالة والقياس الجلي ويكون ذلك في حكم الدخول، ونقل عن السبكي أنه ظني فيجوز إخراجه؛ وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول، ثم ما ذكر في سبب النزول ليس مجمعاً عليه، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله تعالى عنه غلاماً من الأنصار يقال له مدلج وكان رضي الله تعالى عنه نائماً فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجداً، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله تعالى عنه للوحي، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال‏:‏ كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات فيغتسلوا ثم يخرجون إلى الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ويعلم منه أن الأمر في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ‏}‏ وإن كان في الظاهر للمملوكين والصبيان لكنه في الحقيقة للمخاطبين فكأنهم أمروا أن يأمروا المذكورين بالاستئذان وبهذا ينحل ما قيل‏:‏ كيف يأمر الله عز وجل من لم يبلغ الحلم بالاستئذان وهو تكليف ولا تكليف قبل البلوغ، وحاصله أن الله تعالى لم يأمره حقيقة وإنما أمر سبحانه الكبير أن يأمره بذلك كما أمره أن يأمره بالصلاة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏"‏ مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ‏"‏ وأمره بما ذكر ونحوه من باب التأديب والتعليم ولا إشكال فيه، وقيل‏:‏ الأمر للبالغين من المذكورين على الحقيقة ولغيرهم على وجه التأديب، وقيل‏:‏ هو للجميع على الحقيقة والتكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ فالمراد بالذين لم يبلغوا الحلم المميزون من الصغار وهو كما ترى‏.‏ واختلف في هذا الأمر فذهب بعض إلى أنه للوجوب، وذهب الجمهور إلى أنه للندب وعلى القولين هو محكم على الصحيح وسيأتي تمام الكلام في ذلك، والجمهور على عموم ‏{‏الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ في العبيد والإماء الكبار والصغار، وعن ابن عمر‏.‏ ومجاهد أنه خاص بالذكور كما هو ظاهر الصيغة وروي ذلك عن أبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وقال السلمي‏:‏ إنه خاص بالإناث وهو قول غريب لا يعول عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تخصيصه بالصغار وهو خلاف الظاهر جداً، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان ذكوراً وإناثاً على ما يقتضيه ما مر في سابقه عن الجمهور وخص بالمراهقين منهم، و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ لتخصيصهم بالأحرار ويشعر به المقابلة أيضاً‏.‏

وفي «البحر» هو عام في الأطفال عبيداً كانوا أو أحراراً، وكني عن القصور عن درجة البلوغ بما ذكر لأن الاحتلام أقوى دلائله، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبي فقد بلغ، واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة في المشهور‏:‏ لا يكون بالغاً حتى يتم له ثماني عشرة سنة وكذا الجارية إذ لم تحتلم أو لم تحض أو لم تحبل لا تكون بالغة عنده حتى يتم لها سبع عشرة سنة، ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ وأشد الصبي كما روي عن ابن عباس وتبعه القتيبي ثماني عشرة سنة وهو أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقص في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وقال صاحباه‏.‏ والشافعي‏.‏ وأحمد‏:‏ إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن الإمام رضي الله تعالى عنه أيضاً وعليه الفتوى‏.‏

ولهم أن العادة الفاشية أن لا يتأخر البلوغ فيهما عن هذه المدة وقيدت العادة بالفاشية لأنه قد يبلغ الغلام في اثنتي عشرة سنة وقد تبلغ الجارية في تسع سنين، واستدل بعضهم على ما تقدم بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه، واعترض أبو بكر الرازي على ذلك بأن أحداً كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يصح ما ذكر في الخبر، وأيضاً لا دلالة فيه على المدعي لأن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ فقد لا يؤذن البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته وقدرته على حمل السلاح‏.‏

ولعل عدم إجازته عليه الصلاة والسلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أولاً إنما كان لضعفه ويشعر بذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن‏.‏ ومما تفرد به الشافعي رضي الله تعالى عنه على ما قيل جعل الإنبات دليلاً على البلوغ واحتج له بما روى عطية القرظى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال‏:‏ فنظروا إلي فلم أكن قد أنبت فاستبقاني صلى الله عليه وسلم؛ وتعقبه أبو بكر الرازي بأن هذا الخبر لا يجوز إثبات الشرع بمثله فإن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر، وأيضاً هو مختلف الألفاظ ففي بعض رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من جرت عليه المواسي، وأيضاً يجوز أن يكون الأمر بقتل من أنبت ليس لأنه بالغ بل لأنه قوي فإن الإنبات يدل على القوة البدنية، وانتصر للشافعي بأن الاحتمال مردود بما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن غلام فقال‏:‏ هل اخضر إزاره فإنه يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم المشهور عن الشافعي عليه الرحمة جعل ذلك دليلاً على البلوغ في حق أطفال الكفار، وتكلف الشافعية في الانتصار له ورد التشنيع عليه بما لا يخفى ما فيه على من راجعه‏.‏

ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود يقتص له ويقتص منه‏.‏

وعن ابن سيرين عن أنس قال‏:‏ أتى أبو بكر رضي الله تعالى عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه، وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب‏:‏

ما زال مذ عقدت يداه إزاره *** وسما فأدرك خمسة الأشبار

يدني كتائب من كتائب تلتقي *** بالطعن يوم تجاول وغوار

وأكثر الفقهاء لا يقولون به لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلاً وفوق البلوغ ويكون قصيراً فلا عبرة بذلك‏.‏ ولعل الأخبار السابقة لا تصح‏.‏ وما نقل عن الفرزدق لا يتعين إرادة البلوغ فيه، ومن الناس من قال‏:‏ إنه أراد بخمسة الأشبار القبر كما قال الآخر‏:‏

عجباً لأربع أذرع في خمسة *** في جوفه جبل أشم كبير

هذا وقرأ الحسن‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏الحلم‏}‏ بسكون اللام وهي لغة تميم، وذكر الراغب أن الحلم بالضم والحلم السكون كلاهما مصدر حلم في نومه بكذا بالفتح إذا رآه في المنام يحلم بالضم ولم يخص ذلك بلغة دون أخرى، وعن بعضهم عد حلماً بالفتح مصدراً لذلك أيضاً، وفي «الصحاح» الحلم بالضم ما يراه النائم تقول منه‏:‏ حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضاً فيتعدى بالباء وبنفسه قال‏:‏

فحلمتها وبنور فيدة دونها *** لا يبعدن خيالها المحلوم

والحلم بكسر الحاء الأناة تقول منه‏:‏ حلم الرجل بالضم إذا صار حليماً، وفي «القاموس» الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ثم قال‏:‏ وحلم به وعنه رأى له رؤيا أو رآه في النوم والحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم والاسم الحلم كعتق والحلم بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم اه، والظاهر أن ما نحن فيه بمعنى الجماع في النوم وهو الاحتلام المعروف ووجه الكناية السابقة عليه ظاهر‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الحلم زمان البلوغ وسمي الحلم لكونه جديراً صاحبه بالحلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب وفي النفس منه شيء ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ أي ثلاث أوقات في اليوم والليلة، والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار طلب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها فنصب ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ على الظرفية للاستئذان وهو الذي ذهب إليه الجمهور ويدل على ما ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏ الخ فإن الظاهر أنه في محل النصب أو الجر كما قيل أنه بدل من ‏{‏ثلاث‏}‏ أو من ‏{‏مَرَّاتٍ‏}‏ بدل مفصل من مجمل‏.‏

وجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل الخ وهو أيضاً يدل على ما ذكرنا، واختار في «البحر» أن المعنى ثلاث استئذانات كما هو الظاهر فإنك إذا قلت‏:‏ ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ الاستئذان ثلاث ‏"‏ وعليه يكون ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ مفعولاً مطلقاً للاستئذان و‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ الخ ظرف له، وشرع الاستئذان من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة وكل ذلك مظنة انكشاف العورة‏.‏ وأيضاً كثيراً ما يجنب الشخص ليلاً فيغتسل في ذلك الوقت ويستحي من الاطلاع عليه في تلك الحالة ولو مستور العورة ‏{‏وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم‏}‏ أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتحطونها عنكم ‏{‏مّنَ الظهيرة‏}‏ بيان للحين، والظهير كما قال الراغب وقت الظهر، وفي «القاموس» هي حد انتصاف النهار أو إنما ذلك في القيظ‏.‏

وجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ أجلية والكلام على حذف مضاف أي وحين تضعون ثيابكم من أجل حر الظهيرة، وفسر بعضهم الظهيرة بشدة الحر عند انتصاف النهار فلا حاجة إلى الحذف؛ و‏{‏حِينٍ‏}‏ عطف على ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ وهو ظاهر على تقدير كونه في محل نصب، وأما على التقديرين الآخرين فيلتزم القول ببناء حين على الفتح وإن أضيف إلى مضارع كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ على قراءة فتح ميم يوم، والتصريح بمدار الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون ما قبل وما بعد لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبىء عنه إيراد الحين مضافاً إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق المدار فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به‏.‏

‏{‏وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء‏}‏ ضرورة أنه وقت التجرد عن لباس اليقظة والالتحاف بثياب النوم وكثيراً ما يتعاطى فيه مقدمات الجماع وإن كان الأفضل تأخيره لمن لا يغتسل على الفور إلى آخر الليل، ويعلم مما ذكر في حيز بيان حكمة مشروعية الاستئذان في الوقت الأول والوقت الأخير أن المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين ليس مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين صلاة الفجر وصلاة العشاء بل المراد بهما طرفا ذلك الوقت الممتد المتصلان اتصالاً عادياً بالصلاتين المذكورتين وعدم التعرض للأمر بالاستئذان في الباقي من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالاستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى، وإما لندرة الوارد فيه جداً كما قيل، وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين، وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب‏:‏ من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة، وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة، والكلام على حذف مضاف أي هن ثلاث أوقات يختل فيها التستر عادة، وقدر أبو البقاء المضاف قبل ‏{‏ثلاث‏}‏ فقال‏:‏ أي هي أوقات ثلاث عورات أولاً حذف فيه، وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات، والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الاستئذان في تلك الأوقات‏.‏

وقرأ أبو بكر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏ثلاث‏}‏ بالنصب على أنه بدل من ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ وجوز أبو البقاء كونه بدلاً من الأوقات المذكورة، وكونه منصوباً بإضمار أعني‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏عورات‏}‏ بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة‏.‏ وبني تميم ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ‏{‏جُنَاحٌ‏}‏ أي في الدخول بغير استئذان ‏{‏بَعْدَهُنَّ‏}‏ أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن، وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية، ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر‏.‏

وكان الظاهر أن يقال‏:‏ ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهراً فيما تقدم بالاستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير، وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر ههنا أن يقال‏:‏ ليس عليكم جناح بعدهن مقتصراً عليه، ولعل اختيار ما في «النظم الجليل» لرعاية المبالغة في الإذن بترك الاستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفى الجناح عن المأمورين به فيها ظاهراً وحقيقة‏.‏

والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي، واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي‏.‏

وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا، وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذٍ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة‏.‏

ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى‏.‏ والتزم في الجواب كون المراد بالجناح الإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى وإلا خلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأبى المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعون منه‏.‏

ولا يأبى ذلك تقدم الأمر السابق ولا ما في الإرشاد من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاث ودل ذلك على خلافه ومن ذهب إليه قال‏:‏ إنها في الصبيان ومماليك المدخول عليه وآية الاستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ‏.‏ ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالاستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناءً على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الاستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها‏.‏

هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياره وعليه اقتصر أبو البقاء وهو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن، وعليه تقل مؤنة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جداً‏.‏ والجمهور على ما سمعت أولاً في معناها، والظاهر أن الجملة على القراءتين السابقتين في ثلاث مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها، وفي «الكشاف» أنها إذا رفع ‏{‏ثلاث‏}‏ كانت في محل رفع على الوصف‏.‏ والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلاماً مقرراً للاستئذان في تلك الأحوال خاصة، وقال في ذلك صاحب التقريب‏:‏ إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ‏}‏ نصباً وهو بدل من ثلاث مرات كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان‏.‏ ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني‏.‏ أحدها‏:‏ اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذ لم يعلم إلا من هذا‏.‏ والثاني‏:‏ جعل الحكم المقصود وصفاً للظرف فيصير غير مقصود‏.‏ والثالث‏:‏ أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف‏.‏ وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الاستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى، وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه‏.‏ فإن قيل‏:‏ هو مشترك الإلزام قيل‏:‏ قد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ‏}‏ ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبي‏:‏ إن المقصود الأولى الاستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها تابع له لقول المحدث رضي الله تعالى عنه لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلت الآية‏.‏

وفي «الكشف» أنه جىء به أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ‏}‏ الخ على رفع ‏{‏ثلاث‏}‏ مؤكداً للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافاً وأما إذا جعل وصفاً فيفوت هذا المعنى‏.‏ وهذا أيضاً من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَوفُونَ عَلَيْكُمْ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة‏.‏ وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاث وغيرها بأنها عورات‏.‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ جوز أن يكون مبتدأ وخبراً ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض، وجوز أن يكون معمولاً لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض، وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏بَعْضُكُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏طَوفُونَ‏}‏، وتعقبه في «البحر» بأنه إن أراد أنه بدل من ‏{‏طَوفُونَ‏}‏ نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان، وقيل‏:‏ يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى، وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلاً من التي قبلها وكونها مبينة مؤكدة، ولا يخفى عليك ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضاً من المخاطبين وبذلك يقوى أمر العلية‏.‏ وقرأ ابن أبي علبة ‏{‏طوافين‏}‏ بالنصب على الحال من ضمير عليهم ‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وفي غيره أيضاً أي مثل ذلك التبيين ‏{‏يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة، وقيل‏:‏ يبين علل الأحكام‏.‏ وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر ههنا‏.‏

‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشاً ومعاداً‏.‏